تحقيق: رشاد الصالحي -
هذا التحقيق تم انجازه في اطار برنامج الصحافة الاستقصائية من أجل حوكمة محلية رشيدة باقليم الشمال الغربي الذي ينظمه مركز تطوير الإعلام. (تم نشر النسخة الاولى من هذا التحقيق الاستقصائي على الموقع الالكتروني حقائق اونلاين).
"لم يعد لنا في الغابة مستقر، نهشتها الذئاب البشرية" هكذا خاطبنا شيخ جاوز الستين من عمره، نسجت التجاعيد على جبينه تموّجاتها، ينفث أعقاب السيجارة، فيتطاير الدّخان سحبا غاضبة على وضع أرض كان يقطنها، أخذت عنوة وغصبا منه فلم يجد بدّا من الرّحيل.
كان مستقرّا في أرض قرب غابات ساقية سيدي يوسف غرب البلاد على الحدود مع الجزائر ورثها عن أجداده، وهو الآن يراها تذبح وما من منقذ...
الزعتر وهو من الأعشاب الطبية مهدد بالانقراض في غابات الشمال الغربي، وتحديدا في سلسلة جبال ورغة بالحدود الغربية... ليس هذا فحسب بل الانقراض يهدّد العرعار، والعرعار الفينيقي، والصنوبر الحلبي، وبعض الطيور الجارحة، كالطّير والعقاب، والحيوانات البرية، كالضبع. مما ينذر باختلال التوازن البيئي ويهدّد رئة الجهة. ناهيك أن مساحة الغابات تمثل 29 % من مساحة ولاية الكاف.
الغابات في الشمال الغربي تتعرض إلى انتهاك واستباحة ممنهجة بعد 14 جانفي فيما يشبه اغتيال الغاب فمن يقف وراء هذه الجريمة المنظمة؟
(خريطة الغابات بجهة الكاف)
أبراج لمراقبة الغابات لا تشتغل !!!
لم يكن الشيخ محدّثنا حالة منفردة بل مئات مثله نزحوا إلى المدن طلبا للأمان. مصالح الغابات بالكاف أكّدت أن عدد أبراج مراقبة الغابات في الجهة 13 برجا فيها ما يشتغل ليلا ونهارا وفيها ما يشتغل نهارا فقط. وفيها أربعة أبراج منها ثلاثة أبراج وهي رأس الجبل، للّا عيشة، قبر الرومي في ساقية سيدي يوسف وواحد وهو السّيف بنبر لا تشتغل لظروف أمنية !!!!
بعد أحداث 14 جانفي 2011 تراجع عدد حراس الغابات بحوالي 50 % . فغابات الكاف حسب تقدير الدائرة الجهوية للغابات بالكاف تحتاج إلى 450 حارسا بينما لا يوجد الآن إلا أكثر بقليل من 260 حارسا ولم يقع سدّ النقص. كما تراجع عدد المهندسين وأعوان الغابات المختصّين بنسبة 60 % وفق نفس المصدر الذي يضيف أن هذا التراجع يعود إلى عدم سدّ الشغورات النّاجمة عن خروج المتقاعدين. وأيضا غياب الضمانات التشريعية والحماية الميدانية للحرّاس المباشرين. هذا الوضع مهّد لاستباحة الغابات وسلب ثرواتها من قبل "لوبيات" استغلت حالة الارتخاء الأمني للعبث بالثروة الغابية حرقا ونهبا.
فقد بلغ عدد الحرائق التي طالت الغابات من 2015 إلى 2018 أكثر من 230 حريقا غابيا على مساحة قدرت بـ5500 هكتارا منها حوالي 5000 هكتارا بالمنطقة الغابيّة العسكرية. أكثرها فداحة ومساحة كانت بين سنتي 2016 و2017 مما دفع بأغلب العائلات المستقرة بالمناطق الغابية والمقدّر عددها بالآلاف إلى مغادرة موطن سكناها نحو مناطق أكثر أمنا.
(ج.م) واحد من الذين كانوا يعيشون في إحدى المناطق الغابية. وغادرها لأنها لم تعد آمنة ففي كلّ مرّة تسطو عليه مجموعة إرهابية وتطلب بقوة السلاح المؤونة. كما أن الحرائق أتت على الأخضر واليابس ولم يعد لبعض الشويهات التي كان يملكها مرعى. فباع ما يملكه وغادر الغابة.
التهريب والإرهاب وجهان لعملة واحدة
وفي المقابل استوطن الغابات الإرهابيون والمهرّبون وتتالت الاعتداءات على كل من تطأ قدمه الغابة. وعنها تحدث إلينا (ع ـ ب) وهو حارس غابات وذكر أن انتهاكات كبرى طالت الثروة الغابية بعد الثورة من حطب وثروة حيوانية وأعشاب برية كالإكليل والزعتر إلى جانب الصيد العشوائي إضافة إلى الحرائق.
فالإشكال بالنسبة إلى (ع .ب) يكمن في نقص الأعوان أي حراس الغابات. ورغم هذا النقص تمكّن الأعوان في كثير من الأحيان من القبض على مرتكبي الجرائم، ناهبي الثروة الغابية. لكن المعضلة تكمن من الدّاخل فلا بدّ في رأيه من ترميم البيت داخليا لأن هناك "لوبيات" في الإدارة العامة للغابات تبتزّ حقّ الجهات في الشمال الغربي مثل الكاف وجندوبة وسليانة.
(تسجيل صوتي)
وكثيرا ما نفّذ أعوان الغابات وقفات احتجاجية بسبب الاعتداءات المتكررة عليهم. اعتداءات تقوم بها عناصر مهرّبة للحطب بغاية فسح المجال للمقاولين "ع . ي" و "م .س. غ" المسيطران على سوق "الحطب" لاكتساح أكثر ما يمكن من المساحة الغابية.
الإدارة العامة للغابات.. حاميها حراميها
واعتبر حارس الغابات (ع.ب) أنّ الإدارة العامّة للغابات مشلولة وغير قادرة على تطبيق القانون. فهذا المقاول أخذ مقطعا غابيا بعد الثورة. ثم تجاوز ذلك إلى مقطع آخر أي استغل حوالي 57 هكتارا من الغابة ولم يكتف بذلك فخولت له نفسه أن يتجاوز التوقيت الأقصى المسموح به قانونيا لقصّ الحطب وهو السادسة مساء.
إلا أنّ ما يحصل في الواقع هو اكتساح المهرّبين للغابات في ساعات متأخرة من الليل وفي المناطق العسكرية المحظورة. وفي هذا الإطار أوضح مصدر أمني أنّ غابات الكاف ليست مناطق عسكرية مغلقة كالشعانبي بل هناك منطقة عمليات عسكرية بجبل للاعيشة بساقية سيدي يوسف وأضاف أنّ مصالح الغابات هي الكفيلة بحراسة الغابات.
"عائدات الثروة الغابية تقدر بحوالي مليار ونصف سنويا لفائدة ميزانية الدولة. فيوميا حوالي 15 شاحنة تجتاح غابات ساقية سيدي يوسف لتسلب حطبها. وكان نتيجة ذلك تضرر الكثير من العائلات التي تقطن المناطق الغابية وتقتات من ثرواتها". وفي معرض حديثه عبّر (ع .ب) عن قلقه من صمت إطارات الجهة أمام ما يحدث من سلب الثروة الغابية.
(تسجيل صوتي)
عون الغابات من المفروض أن تكون له الضابطة العدلية وفي غياب ذلك اقتحم المهربون وأصحاب النفوذ إدارات الغابات واعتدوا على أعوانها تحديدا في شهر فيفري 2019 ولم يقع تتبع المعتدين.
أين القانون الأساسي للغابيين؟
من جهته أكد (م ـ ب) وهو عضو في نقابة الغابات بجهة الكاف أن نهب الثروات الغابية سببه غياب قانون ردعي. فالقوانين الحالية "بالية". مستمدّة من المجلة الغابية التي تمّ إصدارها في جويلية 1966 وأحدث فيها تحوير في أفريل 1988. فمن المفروض وفق رأيه إصدار قانون أساسي للغابات وديوان ينظم التصرف في الثروة. فالمخالفة الغابية تتراوح خطيتها بين 3 و250 دينارا. يعني أنّ سلب ثروة لا تقدر بثمن يعاقب صاحبها بخطية مالية تكاد تكون رمزية بعنوان نقل منتوجات غابية دون رخصة أو قطع الأشجار أو تكسير الأراضي أو الحرث... وحتى مشروع قانون الغابات قد لا يصادق عليه البرلمان بضغط من اللوبيات.
كما أكّد (ل.م) أنّ الاعتداءات طالت الأعوان كما السيّارات التابعة للغابات. ففي المنطقة الغابية "القفي" بنبر تم القبض في العديد من المرات على المخالفين ثم إطلاق سراحهم وكأنّ شيئا لم يقع. كما تم ضبط شاحنة "حمّالة الحطب" في وسط الغابة الموجودة في منطقة عسكرية بصدد سرقة "الحطب" ليلا في شهر فيفري 2019 بحوزة صاحبها 7944 دينارا.!!!.
(تسجيل صوتي)
والأدهى أن الشخص الذي كان يصاحب المهرّب صادرة في شأنه برقيات تفتيش.!!! ولما تمّ حجز الشاحنة وإيداعها بالمستودع البلدي هاجمت عصابة المهربين منبت الغابات. واعتدوا على حارسها في اعتقاد منهم أنّ الشاحنة محتجزة بالمنبت الغابي.
تكررت الاعتداءات تحديدا في شهر فيفري. ففي 15 فيفري مثلا تم الاعتداء على رئيس مركز الغابات عين الكرمة بساقية سيدي يوسف بالعنف!! . هذه الاعتداءات المتكررة دعت نائبة بمجلس نواب الشعب نسرين العماري إلى توجيه سؤال كتابي إلى وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري بتاريخ 26 فيفري 2019 يتعلق بالإجراءات التي اتخذتها الوزارة أو تعتزم اتخاذها لحماية أعوان وحراس الغابات.
(وثيقة المراسلة)
وزير الفلاحة يتذرع بالوضع الأمني !!!
من جهتنا توجهنا بسؤال إلى وزير الفلاحة سمير الطيب فحواه الإجراءات المتخذة تجاه ما يحدث من اعتداءات على حراس الغابات. فأكد أن المسألة مرتبطة بالأمن القومي للبلاد الذي يتولاّه الجيش والأمن ولم ينف مسؤولية وزارة الفلاحة في أمن الغابات. مضيفا أن الأمور الأمنية في تحسّن. ولكن المشاكل موجودة، ولا يمكن انتداب حراس جدد للغابات إلا في 2020 . وأضاف أن الوزارة تحرص على حماية أعوان الغابات وتجري حاليا المشاورات حثيثة لإعداد قانون أساسيّ للغابيين.
(فيديو لكلمة الوزير)
لوبيات داخل الإدارة العامة تقف وراء نهش الغابات
إزاء تفاقم الوضع وتتالى الاعتداءات على أعوان الغابات ونهب الثروات، والتهم الموجهة إلى الإدارة العامة للغابات، توجّهنا إلى وزارة الفلاحة والتقينا المدير العام للغابات سالم الطريقي الذي أكّد لنا في معرض حديثه أنّ الإدارة العامة للغابات تنخرها من الّدّاخل ما أسماه بـ"الإدارة العميقة" وهو "لوبي" مستفيد ومتمعّش من الفساد يعمل على إفشال وعدم تنفيذ قرارات الإدارة الفعلية قصد الإطاحة بها. "هذا الجسم الإداري الخفي يطيح بمن يطيح ويبعد من يبعد من المديرين العامين. فهو الحاكم بأمره".
وأفادنا مصدر خاصّ تمكنا من التحقق من مصداقيته، أن هناك اثنان من المديرين العامين لم يكونا أداة طيّعة للعناصر النافذة في الإدارة العامة تمّ التخلص منهما أحدهما كانت ترفض أوامره ولا تطبق تعليماته داخل الإدارة العامة، فمات غيظا والثاني أعفي وهو الآن يشتغل خبيرا دوليا.
المدير العام أضاف "أن مقاومة لوبيات الفساد داخل الإدارة وخارجها عمل يومي". وأشار إلى أن الوضع الحالي للإدارة العامة للغابات "لا يشجّع على المضي قدما في الإصلاح لعدم إصدار القانون الأساسي الخاص بأعوان الغابات والمساعدين". "كيف لا وقد قطعت أوصال الإدارة العامة إلى 24 مندوبية جهوية للفلاحة؟ !!! وهو ما من شأنه أن يعطل العمل الراجع بالنظر إلى الغابات".
لذلك فإن الصراع غير متكافئ بين ما سمّاه مخاطبنا "حيتان قوية" وبين "إدارة ضعيفة" سمتها التسويف والتباطؤ في الإنجاز. وأضاف المدير العام "أنّ تحويز الأراضي الغابية للخواص من بين الملفات التي ظلّت طيّ الكتمان . وهناك ملفات لقضايا عقارية تابعة للغابات سقطت لاتصال القضاء بمرور الزمن". "فبطء الإجراءات الإدارية يعيق قدرة الإدارة العامة على تجفيف بؤر الفساد وهناك ثغرات قانونية تتعلق بتسجيل الأراضي تستغلها بعض الأطراف خدمة لمآربها الشخصية وفسح المجال لـ"الحيتان الكبيرة" لنهب الثروات الغابية الخشبية وغير الخشبية".
كما أكّد الطريقي أن "المناطق الغابية العسكرية المغلقة تنتهك من قبل المهرّبين بالتواطئ مع الإرهابيين لتهريب الثروة الغابية".
وأضاف أن هناك "منتوجات غابية غير مثمنة فالبندق مثلا تتحكم فيه "لوبيات" تستثمره قبل النضج مستغلة بذلك ظروف متساكني الغابات المادّية حيث يتزامن حصادها مع دخول الأطفال للمدارس أو بعض الأعياد".
ويختم محدثنا "أن معوّقات الإصلاح لدى الإدارة العامة للغابات هي أوّلا الإبطاء في بعث الديوان الوطني للغابات كهيكل إداريّ رغم إتمامه، وثانيا قلة الموارد البشرية والمادية والبنية الأساسية لحسن سير التتبعات ضد كل المخالفات الغابية، وثالثا عدم تعويض المتقاعدين و غلق باب الانتداب. وكلها عوامل تضعف الإدارة على مواجهة الفساد".
بعد أحداث 14 جانفي 2011 شهدت تونس ارتخاء إن لم نقل فراغا أمنيا أدّى إلى تراجع رهيب لقوّة القانون في مقابل سيطرة قانون الغاب ليفرض بقاء الأقوى. لكن إذا ما استمرت حال الغابات على ما هي عليه، وأمام سياسة الصمت والتجاهل التي تمارسها الحكومة لهذه الجريمة المنظّمة فإنّ اختلال التوازن البيئي نتيجة تضرر الغابات ينذر بخطر محدق بحياة الإنسان.