مرحبا،
أدعى سيف الدين العامري، مراسل قناة سكاي نيوز عربية بتونس، أرسلت من قبل قناتي يوم الثامن والعشرين من شهر فيفري الماضي إلى الحدود الرومانية الأوكرانية لتغطية الحرب هناك.
ويهمني بصفتي أيضا محررا بالمرصد العربي للصحافة أن أتقاسم معكم هذه التجربة من زاوية العمل الصحفي الميداني في حالة الخطورة ذات الدرجة العالية. ليس فقط الخطورة المتعلقة بالاشتباكات والحرب فربما كنا بعيدين نسبيا عن الجبهات المباشرة، ولكن الخطورة التي تكمن في التغير الجذري لساحة العمل من دولة في حالة سلم معدل درجات الحرارة فيها شتاء 14 درجة تقريبا، إلى ساحة عمل في حالة حرب معدل درجات الحرارة فيها خمس درجات تحت الصفر.
التأقلم
كانت تجربة الانتقال إلى العاصمة الرومانية بوخارست ومنها إلى المعابر الحدودية بين رومانيا وأكرانيا بمثابة مواجهة حقيقية لي مع عدة عوامل تمثل فرصا لاختبار ملكة التأقلم لدى المراسلين الدوليين ـ مراسلي الحروب.
أولى العوامل المباشرة على تغير درجات الحرارة. كنت في العاصمة تونس وفي أقل من أربعة وعشرين ساعة كنت في خط الحدود. ولئن كانت السرعة في الانتقال إلى مكان الحدث للتغطية علامة جيدة ودليلا على قدرات عالية للمراسل في التوجه إلى المكان المطلوب، إلا أن ذلك يحمّله طاقة اضافية في احتواء الخصائص الجغرافية للمنطقة. سواء انخفاض في درجات الحرارة أو زيادة فيها، في حالتي كانت انخفاضا شديدا فيها.
في هذه الحالة سعيت إلى التوفيق بين مسألتين، لباس يحمي من البرد في درجات متدنية جدا لست متعودا عليها، وفي ذات الوقت لباس يمكن أن يتماشى مع المحل الإعلامي الذي أعمل فيه: التلفزيون. لا أتحدث هنا عن جمالية اللباس بقدر ما أتحدث عن لباس غير مثير للانتباه، فالأهم عندنا هو نقل الخبر ولا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نتحول إلى الخبر نفسه عبر إثارة الانتباه للباس. كنت أحرص على أن تكون المعاطف المدعمة بلون واحد يكون داكنا مع واق للرأس من الثلوج وقفازات للغرض نفسه.
بعد تدني درجات الحرارة، وهو عامل مرتبط بالجسم مباشرة، وجب أن نفكر في كيفية التواصل من الناس. هنا عامل آخر يظهر ممثلا تحديا: ماهي لغة التواصل مع شرطة الحدود الرومانية؟ ماهي لغة التواصل مع اللاجئين؟ وماهي لغة التواصل مع المتطوعين القادمين من جنسيات مختلفة.
كنا بداية في معبر إيساتشيا التابع لمدينة تولشا جنوب شرقي رومانيا، وهو معبر مائي على نهر الدانوب. كانت لنا مخاوف من أن لا يفهم الناس الانجليزية. لكن ولحسن حظنا كان جميع أعوان شرطة الحدود والمتطوعون تقريبا يتقنون الانجليزية. وبذلك تمكنا من التواصل معهم حول مكان الوقوف للبث المباشر وكيفية التصوير وأخذ المقابلات وغيرها من التقنيات الميدانية. أسجل حسن التواصل ووصول المعلومة بشكل جيد بيننا وبينهم.
تحدي اللغة لم يتوقف عند ذلك الحد، فوسائل الإعلام الرومانية جلها ناطق باللغة الرومانية المحلية التي لا نتقنها. كنا نجتهد لترجمة المقالات عبر تقنيات غوغل للترجمة، علنا نظفر بأرقام الإدارة العامة لشرطة الحدود حول تطور أعداد اللاجئين القادمين من أوكرانيا إلى رومانيا عبر معبريها الرئيسين إيساتشيا )جنوب شرق( وسيرات )شمال شرق(. لكننا وفقنا عبر جمع المعطيات الضرورية وصياغتها بشكل متين لإرسال الأخبار إلى الأقسام المعنية بها في الاستوديوهات المركزية لسكاي نيوز عربية.
طبعا هذه نماذج عن موضوع التأقلم ولا يمكن لمقالة واحدة أن تحتمل الحديث عن كل التحديات، مثل الأكل والنوم ونظام سياقة السيارات والعادات والتقاليد المحلية وغيرها. لكنني وبتجربتي يمكن أن أقول أن المراسل الميداني محمول على التأقلم واحتواء كل تلك التغيرات والعيش ضمنها وفيها.
تقنيات البث المباشر
أنت في مكان لا تعرفه وتزوره لأول مرة في حياتك. بلغة تختلف عنك وأجواء قد لم تعشها في السابق، واجتهاد مضاعف لاستقاء المعلومة ميدانيا من السلطات واللاجئين ومن وسائل الإعلام المحلية وغيرها من المصادر. كل هذه الظروف لا يجب أن تؤثر على سير البث المباشر بأي شكل من الأشكال. وقوفك أمام الكاميرا لتراسل القناة أمام ملايين المشاهدين في حدث عالمي كالحرب في أوكرانيا يعتبر خطا أحمر.
احرص أنت والزميل المصور على أن الربط مع استوديوهات البث سليم، وأن الصورة والصوت يصلان بوضوح، هذا قبل مدة كافية من ظهورك على نافذة المراسلة على الشاشة. من حق المشاهد والمستمع أن يتقبل رسالة متماسكة وصورة صافية من مراسل غير مرتبك وغير متأثر بالظروف التي من حوله.
بعد التأكد من أن البث تقنيا سليم ويمكن الظهور على الشاشة صوتا وصورة بشكل آمن، وجب في رأيي التأكد من المعلومات التي ذهن المراسل. مراجعتها فوريا: عدد اللاجئين الوافدين في الساعات الأربع والعشرين الماضية، العدد الجملي للاجئين منذ بدء الحرب. الفئات العمرية والاجتماعية للاجئين، وإن كان هناك قرارات من السلطات السياسية في علاقة بلجوئهم )إدماج اجتماعي/ إدماج مدرسي للأطفال/ مساعدات عينية/ توجيهات قانونية وإدارية....(.
تأكد من أن معلوماتك صحيحة، عبر تقنيات تقاطع المصادر والمقارنات بين أكثر من مصدر والتأكد من بعض التفاصيل لدى المصادر الميدانية التي أمامك. وتذكر دائما أنك أمام محمل إعلامي للإخبار وهو التلفزيون ولست في شاشة سينما للاستعراض.
اجتهد في ترك الشاشة والابتعاد عنها كي يتسنى للمصور اللعب بالكاميرا وسط الناس واللاجئين أو حتى الجنود )في حالة عدم وجود اشتباكات(. إن تقنية التعليق من خارج الكاميرا تساهم في تقريب المشاهد إلى الحالة الإنسانية والميدانية التي تقع فيها الأحداث. حاول أن تفتك البث المباشر للقناة بأكملها، علق على تراه وما تصوره الكاميرا وأنت خارج مجال التصوير Hors champ، كن مذيعا ميدانيا وحاول التنسيق بالحدس الصحفي مع المذيع الرئيسي في النشرة. صحيح أن هذا الفعل الإخبار يتطلب حرفية عالية ولكن لا مناص من التجربة والتعلم.
طبعا وكما في الفقرة السابقة، من الصعب وصف وتقديم كل التقنيات المتعلقة بالرسالة المباشرة من مجال حربي أو شبه حربي في مقالة واحدة. ولكن على الزملاء الطامحين لهذا المستوى من العمل الصحفي التوق والعمل فعلا على الوصول إليه. لا تخف من التجربة.
قوة التحمل.. المشهد انسانيا صعب
طبعا الصحفي إنسان. ومن الطبيعي أن يتأثر بالظروف المحيطة: أصوات قصف واشتباكات/ حالة إنسانية صعبة للأطفال والنساء وكبار السن وهم يعبرون الحدود في حالة إنهاك/ جثث/ إصابات/ حالات عصبية متشنجة أو حزن شديد/ هستيريا أحيانا...
للتمكن من إيصال كل تلك الظروف حاول أقصى ما يمكن أن لا تتأثر بها. ليست الحرب الأولى في التاريخ ولن تكون الأخيرة. تذكر دائما أن دورك هو إيصال ذلك الخبر الذي أمامك، وأن تلك الصور الإنسانية والوضعيات التي عليها الناس من حولك في حالة حرب هي مشهد وجب أن يصل إلى العالم. من الصعب القيام بتلك المهمة وأن في حالة تأثر وجدانية وعاطفية. أنت طبيب التاريخ والمؤرخ اليومي والمباشر للأحداث وأنت مصدر المؤرخين في المستقبل. تذكر كل هذا وأنت تعمل ميدانيا وحاول أن لا يتسلل الإرهاق والتعب إلى ذهنك وأن لا تستسلم لعواطفك أثناء أداء الواجب الصحفي. حاول قدر المستطاع، فالخبر الذي تنقله مقدس ومجرد، والتعليق دائما للمتلقي وهو تعليق حر.